كتب لنا أحدهم يقول:"نظرية المحبة التي تتكلمون عنها غامضة". وأتبع هذا بمجموعة من الاعتراضات والنقد التقليدي الذي بلاه الاستعمال والذي لم يقف مرة على قدمين لهزال وضعه. وفي هذه الأسطر القليلة لا أريد أن أشرح نظرية تدعى بنظرية المحبة في المسيحية, بل أحب أن أقول للصديق السائل أن المسيحية هي المحبة بعينها, لا مجموعة من النظريات والمبادئ الجافة الصماء. لقد جسد الله مفهوم المحبة بتجسده المعجز, ومات المسيح على صليب الجلجثة. فهل في هذه التضحية لأجل كل من يؤمن بالمسيح حب, أم عاطفة خالية من المعنى ?
"ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه من أجل أحبائه". هذا ما يؤكده يسوع المسيح نفسه في الإنجيل كما كتبه يوحنا البشير. وحيال هذا, أسأل نفسي وليسأل كل عاقل نفسه, هل يقدر أن يعبر إنسان عن محبته بأكثر من تقديم نفسه فداء لمن يحبه?
كثيرون هم الذين ينطقون بعبارات مملوءة تضحية وفداء وفي تاريخ البشرية أمثلة عديدة عن أناس ضحّوا بأنفسهم فداء لسلامة أوطانهم أو أهلهم أو أبنائهم أو حياتهم. فالأم تقول لطفلها:"حياتي فداء لسلامتك يا بني". وقد ترمي بنفسها في الهلاك لتخلص ولدها من الموت غرقاً مثلاً.
والمحب يقول لحبيبته:"فداؤك نفسي يا حبيبتي". ومع أن هذا القول صورة أو تعبير عما في القلب, فإنه لا يخرج غالبا إلى حيز التنفيذ إذا دعت الحاجة بسبب محبة الذات التي تفوق محبة الغير.
ولكن...ولكن... من ذا الذي يقول لأعدائه سأقدم نفسي ذبيحة بدلاً عنكم كي تنالوا الحياة? من ذا الذي يرضى بالموت مسمراً على صليب من الخشب محتقراً ومخذولاً كي ينقذ من العقاب عدوه? لا بشر مطلقاً.
إنسان واحد, يسوع المسيح, فعل ذلك لأنه جاء في جسد إنسان. فالبشر في محدودية مكانتهم وأعمالهم ومحبتهم لا يقدرون. يسوع وحده قادر أن يسكب المحبة في قلوبنا وأن يهب الحياة لأنه مات كي يميت الموت ويعطي الحياة.
المسيح مات مدفوعاً بمحبته ولم يحب فقط الذين يحبونه, بل أحب حتى أعداءه ومات عنهم, لذلك فهو يطلب منا أن نحب أعداءنا أيضاً, حيث يقول: "إذا أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم?" ويقول لنا: "أحبوا أعداءكم". إن محبة العدو تختلف عن محبة القريب. فهي ليست ناتجة من القلب فقط بل من إرادتنا أيضاً, إنها انتصار على مشاعر العداء التي هي شيء طبيعي فينا, إنها إرادة الخير لمن لا يحبوننا وخدمة أولئك الذين يسيئون إلينا ويضايقوننا.
قد نتساءل من يستطيع أن يصل لمثل هذه المحبة, ولكن, ألا نعتقد بأن الله الذي خلقنا والذي يطلب منا أن نحب أعداءنا يقدر أن يجعل كل الناس هدف حياتنا, ويعطينا قوة لنسامح الآخرين عوضاً عن مقابلة الشر بالشر ?
وقد يقول البعض: إن التسامح ضعف, أو أن من يسمح ويغفر جبان لا يقدر أن يواجه الوقائع بشدة وعنف. من السهل جداً أن يقابل الشر بالشر, وأن يستخدم المرء قاعدة العين بالعين والسن بالسن. ولكن النبيل الكريم الشجاع هو الذي يتمهل ويتحكم بعواطفه ونزواته ويصفح عند الإساءة مبتسماً. وهذه الابتسامة ليست إلا المظهر أو الدليل أو المؤثر الذي يعطينا درجة حرارة الغليان في الصدر. وبينما تغبر العيون المحمرة عن الغضب والنقمة, تهزنا الإبتسامة وتسمو بصاحبها لأنها الوردة التي تتفتح فوق الأشواك والطيب يعطر أجواء العفونة والفساد. إن وردة الصفح والتسامح تسمو دائما فوق أشواك الغضب والرغبة في الانتقام. وعندما يسامح أحدنا صديقاً على زلة أو هفوة فإن ما يدفعه إلى ذلك محبته لهذا الصديق ورغبته العميقة في تناسي السيئة والحفاظ على الأخوّة.
يقول المرنم:
إن من يذكر ذنباً منه إن زل صديق يتناسى الشر حالا ذلك الخل الحقيق
إن من يذكر ظل كل ما فيها يزول فكما الأفراح تمضي هكذا الحزن يحول
يأمرنا الكتاب المقدس, كلمة الله قائلاً: "كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض, شفوقين مسامحين بعضكم بعضاً كما سامحكم الله في المسيح".
المحبة ثمر الروح, ونتاج عمل الله في حياة كل مؤمن, وخلاصة تلك التجربة المعجزية, سكنى المسيح في قلب المرء. إنها اختبار شخصي, ونتيجة تفاعل داخلي لا يظهر لك منه إلا نوره وحرارته, أما هو فغامض بالنسبة لك, ولا يتضح إلا حين يصبح قلبك مركزاً لتلك التفاعلات, فهل تريد أن تستنير بنور المحبة المسيحية وتستدفئ بحرارتها? تعال إلى المسيح.