إن من يرفع عينيه إلى العلاء، ويرى هذا الكون اللانهائي بما فيه من مجرات ونجوم وكواكب وأقمار، ثم يتلفت حوله ليرى هذه الخليقة وروعة ما فيها من الجبال العالية والبحار الواسعة، إلى الزهرة الجميلة والزنبقة الطاهرة، ثم يتأمل داخل نفسه، هذا الجسد المليء بالمعجزات، والنفس الخلاقة الممتلئة بالعبقرية والذكاء، لابد أن يقول مع المرنم
ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنعت (مزمور 104 : 24).
نعم إن الإيمان بوجود الله أكثر معقولية بما لا يقاس من إنكار وجوده. والكفر لم يكن العقل منشأه، بل كان منشأه القلب ، فليس أن العالِم قال في عقله ليس إله، بل
قال الجاهل في قلبه ليس إله. فسدوا ورجسوا رجاسةً (مزمور 53 :1).
اللـه من هو؟
مع أن الخليقة تعلن لنا عن وجود إله عظيم هو علة وجودها، إلا أنها لا تعلن من هو. لقد أخبرتنا عن قدرته وعظمته (روميه 1 : 19،20)، لكنها لم تستطع أن تخبرنا عن ذاته وجوهره. فجاء عن الله في العهد القديم
هوذا الله عظيم ولا نعرفه .. القدير لا ندركه (أيوب 36 : 26 و 37: 23)
وقيل عنه في العهد الجديد
ساكناً في نور لا يدنى منه (1تيموثاوس 6 : 16).
وليس هذا بالأمر المستغرب. فلا أنا ولا أنت نعرف كل شئ عن الكون الذي كوَّنه اللـه، أو نفهم جميع أسراره كالجاذبية، والكهرباء والذرَّة .. الخ. فإذا كان يتعذر علينا بعقولنا أن نستوعب الخليقة أيمكن أن نستوعب الخالق؟!
أإلى عمق الله تتصل، أم إلى نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلى من السموات فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية فماذا تدري؟ (أيوب 11 : 7،8).
إذن لم يكن مفر لكي نعرف الله أن يتنازل هو ويعلن عن نفسه. ولقد جاء الإِعلان : إن الله واحد ، وهذا أمر معقول لأن تعدد الآلهة الذي عند الوثنين يعنى محدودية وتحيز هذه الآلهة، والمحدودية والتحيز يرتبطان بالنقص وعدم الكمال. وحاشا لله من أي منهما.
1- اللـه واحد
كثيرة نلتقي الآيات المقدسة في كلا العهدين القديم والجديد عن وحدانية الله. فمثلاً يرد في العهد القديم :
الرب إلهنا رب واحد (تثنية 6 : 4).
أنا الأول وأنا الآخر. ولا إله آخر غيري (إشعياء 44: 6).
ويرد في العهد الجديد :
بالحق قلت (إن) الله واحد وليس آخر سواه (مرقس 12 : 32)
وأيضاً أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل (يعقوب 2 : 19) وغيرها الكثير جداً .
نوع الوحدانية
لكن أي نوع من الوحدانية نلتقي وحدانية الله؟ هل نلتقي وحدانية مجردة أو مطلقة؟ لو كان كذلك فثمه سؤال يفرض نفسه: ما الذي كان يفعله الله الواحد الأزلي قبل خلق السماء والأرض والملائكة والبشر؟ نعم في الأزلية، إذ لم يكن أحد سواه، ماذا كان يفعل؟ هل كان يتكلم ويسمع ويحب؟ أم كان صامتاً وفي حالة سكون؟
إن قلنا إنه لم يكن يتكلم ويسمع ويحب، إذاً فقد طرأ تغيير على الله - لأنه قد تكلم إلى الآباء بالأنبياء، وهو اليوم
سامع الصلاة إذ هو السميع المجيب، كما أنه يحب إذ أنه الودود. نعم إن قلنا إنه كان ساكناً لا يتكلم ولا يسمع ولا يحب ثم تكلم وسمع وأحب فقد تغيّر؛ والله جل جلاله منزه عن التغيير والتطور.
وإن قلنا إنه كان يتكلم ويسمع ويحب في الأزل، قبل خلق الملائكة أو البشر. فمع من كان يتكلم، وإلى من كان يستمع، ومن كان يحب؟؟؟
إنها حقاً معضلة حيرت الفلاسفة، وجعلتهم يفضلون عدم الخوض في غمارها. فهيهات لعقولهم المحدودة أن تحل تلك المعضلة أو أن تعرف جوهر الله. أما الكتاب المقدس، فلأنه كتاب الله، الذي فيه أعلن الله لنا ذاته، فلقد عرفنا منه ما خفي على كل فلاسفة البشر وحكمائهم، وهو أن وحدانية الله ليست وحدانية مجردة أو مطلقة. بل نلتقي وحدانية جامعة مانعة - جامعة لكل ما هو لازم لها، ومانعة لكل ما عداه. وبناء على ذلك فإن الله منذ الأزل وإلى الأبد هو كليم وسميع، محب ومحبوب، ناظر ومنظور ... دون أن يكون هناك شريك معه، ودون احتياجه، جلت عظمته إلى شئ أو شخص في الوجود لإظهار تلك الصفات.
هذا يقودنا إلى النقطة الثانية وهي :
2- أقانيم اللاهوت
كلمة أقنوم، وهي ليست كلمة عربية، بل سريانية، تدل على من له تمييز (distinction) عن سواه بغير انفصال عنه. وهكذا أقانيم اللاهوت؛ فكل أقنوم، مع أن له تميز عن الأقنومين الآخرين، لكنه غير منفصل عنهما. وبذلك يمارس الله أزلاً وأبداً كل الصفات والأعمال الإلهية بين أقانيم اللاهوت. وبذلك كان يمارس الله صفاته في الأزل قبل وجود المخلوقات، وبغض النظر عن وجودها، إذ أنه - نظراً لكماله - مكتفٍ في ذاته بذاته. فإن العقل والمنطق يرفض الفرض بأن صفات الله كانت عاطلة في الأزل ثم صارت عاملةً عندما خلق، لأنه لو كان الأمر كذلك يكون الله قد تعرض للتغيير والتطور، وهو له كل المجد منزه عن كليهما تنزيهاً مطلقاً!
أسمى من العقل !
هذه الحقيقة، أعنى وحدانية الله الجامعة المانعة، واكتفاء الله بذاته لإِظهار كل صفاته عن طريق وحدانية الله وتعدد أقانيمه، نقول إن هذه الحقيقة نلتقي بالفعل فوق العقل والإِدراك. لكن هذا لا يعيبها بل بالعكس إنه دليل صحتها. فالعقل إذا اخترع شيئاً فإنه يخترع ما يتناسب مع قدرته وفي حدودها. فكون هذه الحقيقة أسمى من العقل فهذا دليل على أنها ليست من إنتاجه.
لقد شغلت هذه المعضلة ذهن المفكر المسيحي القديم القديس أغسطينوس ، دون أن يهتدي إلى حل يقنعه تماماً. وفي ذات يوم بينما كان مستغرقاً في هذه الأفكار وهو يسير على شاطئ البحر وجد طفلا يلهو على رمال الشاطئ. وأراد المفكر أن يسري عن نفسه فاقترب من الطفل وسأله ماذا تفعل ؟ أجابه الطفل إني أحاول أن أنقل ماء البحر إلى هذه الحفرة أتتحدى حفرتها!
كانت هذه الإِجابة من الطفل سهماً أصاب أغسطينوس في الصميم. فكف عن محاولة فهم هذا الموضوع بالعقل. والواقع أنه من المنطقي أن يكون الله فوق العقل، في إذا أمكننا أن نستوعب إلهاً بعقولنا لا يكون هو الله.
فإن كنا لا نقدر أن نستوعب الخالق بعقولنا يكون من باب أولى ألا تصلح هذه العقول للحكم على ما يتنازل الله بالنعمة ليعلن لنا به عن ذاته. نعم، فالله لم يعطنا العقل لنفهم به الخالق بل لنفهم به الخليقة. أما أمام الخالق العظيم؛ الله، فينحني العقل شاعراً بصغره تماماً.
ماذا يقول الكتاب ؟
إن أول آية في الكتاب المقدس تعلن هذه الحقيقة أتتحدى ذكرناها الآن إذ يقول الوحي:
في البدء خلق الله السموات والأرض وفي هذه الآية ورد الفعل خلق بالمفرد، بينما إسم الجلالة الله ، وفي الأصل العبري إيلوهيم ورد بصيغة الجمع .
وأول الوصايا في الناموس تشير أيضاً إليها إسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد (تثنية 6 : 4، مرقس 12 : 29). وكلمة واحد هنا باللغة العبرية تفيد الوحدة المركبة.
لكن هناك ما هو أوضح من ذلك:
فى الخلق قال الله : نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا (تكوين 1 : 26).
هل استخدم الله هنا صيغة الجمع للتعظيم كما يظن البعض؟ كلا، فاللغة العبرية التي بها كتبت التوراة لا تعرف تلك الصيغة. والدليل على ذلك أن الملوك كانوا يتحدثون عن أنفسهم دائماً بصيغة المفرد أنا فرعون (تكوين 41 : 44)، أنا نبوخذ نصر (دانيال 4 : 32)، أنا داريوس (عزرا 6 : 12). بل إن الله نفسه عندما تكلم مع إبراهيم قال له
أنا ترس لك (تكوين 15 : 1)، أنا الله القدير (تكوين 17 : 1).
وما قاله الرب بعد سقوط الإنسان يجعل الحق الذي ذكرناه الآن أوضح. إذ
قال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر (تكوين 3: 22).
ومرة ثالثة في زمان بناء برج بابل قال الرب هلم ننزل الآن ونبلبل هناك لسانهم (تكوين 11 : 7).
إذاً فهذا الحق معلن في أول أسفار الكتاب بصدد الخلق، ثم السقوط، ثم الدينونة.
وهناك في إشعياء 6 : 8 آية واضحة تماما، إذ أن ذات الآية تجمع بين صيغتي المفرد والجمع عن الله:
سمعت صوت السيد قائلا من أرسل (بالمفرد) ومن يذهب من أجلنا (بالجمع) إنها تحدثنا عن الوحدانية مع تعدد الأقانيم.
3 ـ الثالوث الأقدس
لكن ليس فقط تعدد الأقانيم هو ما نراه في العهد القديم، بل عدد الأقانيم أيضا. فلنستمع مثلا إلى نداء السرافيم الوارد في إشعياء 6 : 3 قدوس قدوس قدوس لماذا ترد كلمة قدوس ثلاث مرات بالضبط لا أكثر ولا اقل؟ لأنها تشير إلى أقانيم اللاهوت الثلاثة.
فالآب قدوس (يوحنا 17 : 10).
والابن قدوس (رؤيا 3: 7، لوقا 1: 35).
والروح القدس أيضاً قدوس (1تسالونيكي 4: 8، أفسس 1: 13).
ثم استمع إلى بركة هرون للشعب، إنها أيضا بركة ثلاثية يباركك الرب ويحرسك. يضئ الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً (عدد 6: 24ـ 27). لماذا هذا التكرار الثلاثي؟ لأنها تحمل اسم الرب
ثم لما أراد بلعام أن يلعن شعب الله، وافاه الله ثلاث مرات. في المرة الأولى وافى الله بلعام وفي المرة الثانية وافى الرب بلعام وفي المرة الثالثة كان عليه روح الله (عدد 23 :4، 16، 24 :2). فهل كان هذا صدفه بلا معنى؟ أم أنها إشارة إلى الآب والابن والروح القدس؟
ثم في المزمور الذي، بعد أن ذكر في (ع 1ـ3) ثورة الأشرار وتمردهم على الله، فإنه ذكر بعد ذلك؛ في (ع 4-6) رد الآب عليهم الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزئ بهم... أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون ..
ثم في (ع 7-9) يحدثنا عن الابن معلناً المرسوم الإلهي إني أخبر من جهة قضاء الرب : قال فهي أنت أبني أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثا لك، وأقاصي الأرض ملكاً لك...
وأخيراً (ع 10-12) نصيحة وتحذير الروح القدس فالآن يا أيها الملوك تعقلوا ... اعبدوا الرب بخوف .. قبِّلوا الابن لئلا يغضب ... .. أفليست هذه أيضاً إشارة واضحة إلى الآب والابن والروح القدس؟!
ثم في إشعياء48 : 16 نجد ما يمكن أن نعتبره أوضح إشارة إلى أقانيم اللاهوت الثلاثة في العهد القديم حيث نستمع إلى صوت الإبن المتجسد قائلاً (بروح النبوة) منذ وجوده أنا هناك. والآن السيد الرب أرسلني وروحه فالابن كان هناك عند الآب منذ الأزل وفي ملء الزمان أرسله الآب والروح القدس أيضا !
أما إذا وصلنا إلى العهد الجديد في نجد هذا الحق مُعلَناً بكل وضوح. ولقد كان مشهد معمودية المسيح هو أول إعلان صريح للثالوث. فعندما خرج المسيح (الابن) من مياه المعمودية نزل الروح القدس عليه بهيئة جسمية مثل حمامة، وصوت الآب سُمع مخاطباً الابن أنت أبني الحبيب الذي به سررت (مرقس 1 : 11).
ثم جاء رسم المعمودية المسيحية، بعد قيامة المسيح، هكذا عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس (متى 28 : 19).
ونلاحظ أنه لم يقل عمدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس، بل باسم، لأن الأقانيم الثلاثة هم إله واحد.
والواقع أن الإشارات إلى الثالوث الأقدس فيء العهد الجديد تفوق الحصر. فمثلاً فيء ختام الرسالة الثانية إلى كورنثوس يقول الرسول بولس نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم، آمين.
وفي افتتاحية رسالة الرسول بطرس الأولى يرد القول إلى المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق فيء تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح
وهاك بعض الشواهد الأخرى عن هذه الحقيقة بعينها ليرجع إليها القارئ العزيز إذا أراد المزيد من الفائدة: لوقا 1 : 35، يوحنا 14 : 16، 17، أعمال 4 : 29 ـ 31، 1كورنثوس 12 : 4 ـ 6، أفسس 4 : 4 ـ 6، عبرانيين 10 : 9 ـ 15، يهوذا 20، 21، رؤيا 1 : 4، 5 ... الخ.
كيف ثلاثة يساوى واحد ؟
يرتبك البعض ولا يفهم كيف أقانيم ثلاثة كل أقنوم هو الله ولا يكون فيء النهاية ثلاثة آلهة بل إله واحد. ويقولون أليس أبسط قواعد الحساب أن 1 + 1 + 1 = 3. نقول لهم نعم، لكن أيضاً 1 × 1 × 1 = 1 وهذا هو الحال بالنسبة للأقانيم. لقد ورد فيء الكتاب قول المسيح لفيلبس ألست تؤمن أنى أنا فيء الآب والآب فىَّ (يوحنا 14 : 10)، وعن الروح القدس ورد فيء الكتاب أنه روح الآب (متى 10 : 29) وأنه روح الابن (غلاطية 4 : 6) وهذا معناه أنه في الآب وفي الابن. وسوف نأتي على مزيد من التوضيح لهذه الحقيقة بعد قليل.
الرقم ثلاثة:
هل سبق لك أن فكرت فيما للرقم (3) من وضع خاص في الكون؟ إن لم يكن قد سبق لك التفكير فيء هذا الأمر فسأقدم لك بعض الأمثلة تساعدك في ذلك.
· هناك فيء كوكبنا ثلاثة مجالات للحياة: الأرض، الجو، والبحر. لكنني فإن الحياة قد تكون أرضية أو جوية أو مائية.
· وجوهر الأشياء على ثلاث صور: جماد ـ نبات ـ حيوان.
· والمادة لها ثلاثة أحوال: صلبة ـ سائلة ـ غازية.
· وفي قواعد اللغة لا يخرج الكلام عن أحد الضمائر الثلاثة:
المتكلم والمخاطب والغائب.
· وللمقارنات نستخدم: فوق وتحت وموازى ـ أكبر وأصغر ومساوي.
· ثم الزمن كله هو واحد من ثلاثة: ماضي وحاضر ومستقبل
· والإنسان كائن تلميذي: جسد ونفس وروح.
· الحيوانات الراقية مكونة من ثلاثة أجزاء رئيسية (رأس ـ بدن ـ ذيل)، وكذلك الأسماك. وكذلك النباتات (جذر ـ ساق ـ فرع).
· والذرِّة أيضاً ثلاثية التكوين: بروتونات ونيوترونات واليكترونات.
· وأول شكل هندسي مغلق هو الحقيقي له ثلاثة أضلاع (المثلث).
· ويلزم لكل جسم أن يكون له أبعاد ثلاثة : (الطول والعرض والارتفاع).
· ولتحديد نقطة فيء الفراغ يلزم ثلاثة محاور (س، ص، ع).
· والألوان الرئيسية ثلاثة هي الأحمر والأصفر والأزرق، وكل الألوان الأخرى هي مزج لهذه الألوان معاً.
أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم ؟
إننا يمكننا أن نستمر أكثر في سرد هذه الأمثلة لنرى كيف يضع الرقم (3) بصمته الواضحة على كل ما فينا وكل ما حولنا. لكنى أقوالي بهذا لأعود فألقى مزيدا من الضوء على ثلاثة من الثلاثيات التحدي مرت بنا.
¨ ذكرنا أن جسم يلزم أن يكون له طول وعرض وارتفاع. فهل هذه الأبعاد الثلاثة أمر حتمي؟ أيمكننا أن نضيف بعداً رابعا ؟ مستحيل. أو يمكننا الاكتفاء ببعدين ؟ الإجابة أيضا مستحيل. هب أنك استبعدت بعداً من الثلاثة وليكن الارتفاع. سيصبح عندك الطول والعرض فقط وتحصل على ما يسمى بالسطح المستوى. هذا السطح المستوى ليس شيئا واقعياً. لقد تخيل علم الرياضيات مثل هذا الشكل لكن في الواقع لا يوجد شئ بدون هذا البعد الثالث.
إذاً إما أن تكون الأبعاد الثلاثة معاً وإما العدم.. أليس لهذا من دلاله ؟؟!
¨ لكننا سنخطو خطوة أبعد فيء المثال أتتحدى. فلقد ذكرنا أن الألوان الرئيسية هي الأحمر والأصفر والأزرق .. النور الذي لا لون له، الذي لا يُرى، عندما ينكسر ينتج لنا ألوان الطيف السبعة الزاهية والجميلة، التى هي أساساً هذه الألوان الثلاثة.
الأحمر يشير إلي أشعة الحرارة، وهي أشعة غير منظورة، لكن الحرارة هي مصدر الحياة وهي لازمة لأجسادنا وإلا متنا، ولازمة للأرض وإلا فلا نُضج للثمار والمحاصيل.
والأصفر يشير إلي أشعة الضوء؛ وبدون الضوء نُمسي فيء ظلمة حالكة. لكن هذا الشعاع يجعلنا نري، كما ويمكننا أن نراه.
والأزرق يشير إلي الأشعة الكيماوية؛ وإن كنا لا نرى هذه الأشعة لكننا ندركها من التأثير الحقيقي تنشؤه داخل كياننا.
أليس هذا فيء تمام التوافق بالنسبة للمجال الروحي ؟ لقد ذكر الكتاب أن الله نور وأنه لا يُرى (1يوحنا1: 5، 1تيموثاوس6: 16، 1: 17).
لكن الله الحقيقي هو نور، والذي لا يُرى، ألم يعلن لنا عن نفسه؟ ألم يعلنه الوحي لنا في الاقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس؟
أما الآب والروح القدس فلا يراهما أحد.
الآب هو مصدر الحياة، وحافظ الحياة. إنه المصدر الوحيد لكل الأشياء (1كورنثوس 8 :6).
والروح القدس أيضا قال عنه المسيح إن العالم لا يراه (يوحنا 14 : 17) وأما بالنسبة للمؤمنين فلم يقل إنهم سيرونه (لإنه لايُرى) بل سيعرفونه. وذلك من تأثيره فيهم لأنه ماكث معكم ويكون فيكم
أما المسيح، الابن، فلقد رآه البشر بعيونهم، وشاهدوه (1يوحنا 1: 1) كما أنهم بواسطته أيضا أمكنهم أن يروا؛ كقوله أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشى في الظلمة بل يكون له نور الحياة بل كان هو النور الحقيفي الذي أظهر حقيقة كل الأشياء (يوحنا 8: 12، 1: 9).
مرة أخرى نقول أليس لكل هذا معناه ومدلوله؟
¨ لكننا سنخطو خطوة أخرى أبعد فيء المثل الثالث : لقد ذكرنا أن الزمن ثلاثي: ماضي وحاضر ومستقبل. لو كان الزمن ثنائياً فقط لما كان للزمن وجود. فلنفترض مثلاً أنه ليس هناك ماض، إذاً فما كان وجود للزمن حتى هذه اللحظة، وبعد قليل أيضاً لن يكون لهذه اللحظة التي نتكلم عنها وجود، معني ذلك أن الزمن كله قد
تلاشي! أو لنفترض أنه لم يكن هناك حاضراً، هذا معناه أنه ما كان هناك لحظة علي الإطلاق كان الزمن موجوداً فيها. وبالمثل أيضاً إذا لم يكن هناك مستقبل، فإن الزمن وجوهري فيء اللحظة التحدي نحن فيها، بل ويقيناً يكون قد انتهى من قبل ذلك.. لكنني لا يكون هناك زمن علي الإطلاق. إذاً إما أن يكون الزمن ثلاثياً وإلا فلا زمن!!!
والآن دعنا نفكر كيف يتحرك الزمن؟ أقصد في اى اتجاه؟ هل يتحرك من الماضي إلي المستقبل أم من المستقبل إلي الماضي ؟
الواقع إن الزمن لا يسير من الماضي إلي المستقبل، بل إنه يأتينا من المستقبل متجهاً نحو الماضي. لتوضيح ذلك دعنا نأخذ فترة الزمن التي نسميها اليوم أعني هذا اليوم الذي أنت تقرأ فيه هذه الكلمات. منذ زمن بعيد كان هذا اليوم في المستقبل البعيد العام القادم ثم أصبح الشهر القادم ثم الأسبوع القادم ثم الغد . وهاهو الآن أصبح اليوم أو تحريف في الحاضر وهكذا لابد أنه سيصبح الأمس ثم الأسبوع الماضي ثم الشهر الماضي ثم العام الماضي. ومن هذا يتضح أن هذه الحقبة التي نسميها اليوم أتت إلينا من المستقبل إلي الحاضر إلي الماضي. الزمن دائما يسير فيء هذا الاتجاه الواحد من المستقبل إلي الحاضر إلي الماضي.
إذاً فالمستقبل هو مصدر الزمن، إنه الوعاء الذي يحوى الزمن الذي سيصبح في وقت ما الحاضر ثم يصبح الماضي .. إنه هو أبو الزمن، الآب !
لكن هل كون المستقبل هو أبو الزمن فهذا يعنى أنه أكبر من الحاضر، أو أكبر من المستقبل؟ كلا، لأنه فيء كل لحظة من الزمن كان هناك حاضراً. إن الحاضر موجود مادام الزمن موجوداً. وهكذا بالنسبة إلى الماضي. فيمكننا إذاً أن نقول إن الماضي والحاضر والمستقبل، الثلاثة متساوية تماماً، وكل واحد منها هو الزمن، الزمن كله، دون أن يعنى ذلك أنه يمكن أن يكون هناك وجود لواحد بالاستقلال عن الآخرين أعنى بدون وجود ثلاثتها.
والآن تأمل في المستقبل؛ إن المستقبل غير منظور، فالذي نراه ونسمعه ونعرفه هو الحاضر. ويظل المستقبل بالنسبة لنا مجهولاً حتى يتجسد واقعاً حياً في الحاضر. فالحاضر إذاً هو الذي يعلن لنا المستقبل، ومن خلاله نحن معني الزمن. بواسطة الحاضر يدخل الزمن في علاقة مع الإنسان، ويتعرف الإنسان على المستقبل.
المستقبل هو الذي أرسل الحاضر، وكذلك الحاضر إذا ذهب فإنه يرسل إلينا المستقبل. والماضي مثل المستقبل في كونه غير منظور، لكنه مع ذلك يؤثر فينا جداً. هو المذكِّر وهو المعلم. إنه الذي يلقى الضوء على الحاضر فنقدِّره، وعلى المستقبل لنستعد له إذ يأخذنا الحاضر إليه.
ما أقوى هذه التصويرات العجيبة. أعد التأمل فيها مرة ثانية في ضوء الحقائق الروحية الفائقة. فالله الواحد هو أقانيم ثلاثة: الآب والابن والروح القدس.الآب الذي لا يراه أحد أرسل الابن (يوحنا 5 :37) الذي قال مرة الذي رآني فقد رأى الآب (يوحنا 14 : 9). والابن إذ مضى إلى السماء، أرسل إلينا الروح القدس (يوحنا 16: 7)!!!
تذييل لا بد منه :
دعنا قبل الإنتهاء من هذا الموضوع نوضح أننا لا نقول إن الله ثالوث في أقانيمه لأن النور ثلاثي، ولأن الزمن ثلاثي أو أو .. فالله لا نشبهه بشيء.
يقول الكتاب فبمن تشبهون الله وأي شبه تعادلون به وأيضاً فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس (إشعياء40: 8 و 25) كلا، إن الفارق كبير وشاسع بين الخليقة والخالق لكنها مع ذلك تحمل ملامحه.
لتوضيح ذلك نقول أن الخبير الذي يرى لوحة للفنان العالمي بيكاسو يدرك أنها من عمله لأن فيها تظهر شخصيته. إنه هو، بفنه، في اللوحة التي رسمها، وفيها ظهرت بصماته. لكن اللوحة طبعا ليست هي بيكاسو نفسه.
هذا تشبيه بسيط جداً لما نحن بصدده. فمع أنه لا يوجد في كل الكون ما يشبه الله (تثنية 4 : 15 - 19). لكن هذا الكون لأنه خليقة الله، فلا عجب إن كان يظهر لنا شيئاً عنه لأن أموره غير المنظورة (أي قدرته السرمدية ولاهوته) تُرى منذ خلق العالم، مدركةً بالمصنوعات (رومية 1: 20).
نعم إننا إذ ننظر إلى كل ما حولنا ونراه ثلاثياً، ثم نتحول إلي الإعلان الاتجاه في الوحي فنجده يتكلم عن الله الآب والابن والروح القدس، أيكون من المنطق أن نعترض؟ أيجوز لعقولنا أن تتعجب؟ كلا، بل إننا بخضوع نسجد أمام الله الذي أعلن لنا نحن الخلائق المسكينة نفسه، والذي لولا إعلانه نفسه لنا ما كان يخطر علي بالنا هذا الحق المبارك عن الله الواحد في جوهره والثالوث في أقانيمه. الذي له كل المجد.