على موقع وكالة “رويترز” للأنباء، وأيضًا في صحيفة “دير ستاندرد” النمساوية، بتاريخ 11 فبراير 2010، وتحت عنوان “لكل مَنْ يحلم بالثروة!”، نُشر هذا الخبر:
قرر رجل الأعمال؛ المليونير النمساوي “كارل رابيدير” (47 سنة) التَخَلُّص من آخر فِلْس في ثروته البالغة 3 ملايين جنيه إسترليني (حوالي 28مليون جنيه مصري)، بعد أن أدرك أن أمواله تتسبب في تعاسته. ولقد قرر أن يوزع ثروته على مشاريع خيرية أقامها في أمريكا اللاتينية لمساعدة الفقراء، ولن يستفيد بفِلْس من هذه المشاريع، حتى إنه لن يأخذ راتبًا شهريًّا منها.
وأول شيء فعله “كارل رابيدير” هو بيع الفيلا البالغة مساحتها 3455 قدمًا مربعًا، وفيها بحيرة وحمام سباحة وساونا، وتطل على مناظر جبال الألب، والتي ثمنها 1.4 مليون جنيه إسترليني. أيضًا سيبيع منزله الريفي، البالغة مساحته 17 هكتار، وسعره في السوق 613000 جنيه إسترليني. وقد باع أيضًا طائراته الخاصة وسياراته. كما باع محلاته التي اكتسب منها ثروته، وهي تختص بالديكورات الداخلية والأنتيكات والأثاث. وسوف يستبدل السكن الفخم الفارِه، الذي كان يُقيم فيه، بكوخ خشبي بسيط في الجبال، أو بشقة بغرفة واحدة في المدينة.
ويقول في حديث مع صحيفة “الديلي تيليجراف”:
“فكرتي أن أبيع كل شيء ولا أترك أي شيء لي. إن المال يأتي بنتائج عكسية، فهو يُسبِّب التعاسة. لسنوات طويلة اعتقدت أن المزيد من الثروة يعني مزيدًا من السعادة. لقد نشأتُ في عائلة فقيرة حيث كانت القواعد فيها هي: المزيد من العمل للحصول على المزيد من الأشياء المادية، وقد طبقت ذلك طوال حياتي، ولكن مع مضي الزمن تولدت لديَّ مشاعر أخرى متصارعة، وصارت لدي قناعة أنني أعمل مثل عبد من أجل أشياء لا أريدها ولا أرغب فيها حقيقةً”.
وقد جاءت نقطة التحول في حياته حين قضى مع زوجته عطلة في جزر هاواي لمدة ثلاث أسابيع، وعنها يقول:
“كانت أكبر صدمة في حياتي حين أدركت كم أن حياة الخمس نجوم رهيبة وخالية من الحياة! لقد صرفنا في تلك الأسابيع كل الأموال التي يمكن تخيُّلها، ولكن مع ذلك تولد لدينا إحساس بأننا لم نلتقِ بإنسان حقيقي. وأننا كلنا كُنَّا ممثلين. كان الموظفون يلعبون دور الأشخاص الودودين، والضيوف يلعبون أدوار الأشخاص المُهمين، ولكن لم يكن أحد مِنَّا حقيقيًّا. وكانت لديَّ نفس المشاعر في رحلات الطيران فوق جنوب أمريكا وأفريقيا، وأصبحت أشعر بأن هناك علاقة بين ثرائنا وفقرهم”.
ويُضيف “كارل رابيدير” إنه منذ أن باع ممتلكاته أصبح خفيفًا حُرًّا، والحرية التي يقصدها هي عكس ثقل المال الذي يربطك.
قارئي العزيز، هذه القصة تؤكِّد أنه إذا لم يكن لك في حياتك ما هو أثمن من المال والفضة والذهب، فأنت فقير بحق. ويوجد مَنْ هُم أغنياء ماديًّا، ولكنهم في الحقيقة فقراء من نحو الله: «هَكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا لِلَّهِ» (لوقا12: 21).
والمال يُعطيه الله للإنسان لبركته وخيره، ولكن كثيرًا ما يجعل منه البشر صنمًا يتعبدون في محرابه (متى6: 24). وهو - أي المال - أكثر المقتنيات التي لا تُشبِع صاحبها. إنه يستطيع أن يشتري أي شيء ما عدا السعادة وراحة الضمير. إنه، ولا شك، يرفع عن الكاهل بعض الهموم، ويحل بعض المشكلات، ولكنه يجلب معه همومًا أخرى موازية للتي رفعها؛ فالتعب يُرافق عملية الحصول عليه، والقلق يُلازم محاولة الحفاظ عليه، كما أن استخدامه لا يخلو من تجارب، وسوء استعماله يقود إلى الشعور بالذنب، وفي خسارته حزن وأسى، وكيفية إنفاقه واستثماره تصحبها الحيرة، ومحبته «أصلٌ لكل الشُّرُورِ» (1تيموثاوس6: 10)؛ فهي تفجِّر الطمع، والحسد، والأنانية، والتنافس البغيض، والنزاعات والخلافات. والناس في سعيهم المحموم وراء المال يُهملون الأمور الروحية، ويُصبح خلاصهم وإيمانهم أمورًا يُشَكُّ فيها.
وعندما نقرأ كلمات «ربي وإلهي»، نلاحظ أن مقدار ما تحدَّث به عن الطمع ومحبة المال، يفوق ما تحدث به عن أي من الشرور أو الخطايا الأدبية الأخرى، بالرغم من أنه - تبارك اسمه - كان يتكلم، في أغلب الأحيان، إلى أشخاص من الفقراء.
ففي مَثَل وكيل الظلم (لوقا 16: 1-13)، نسمع مَنْ له الفهم والمشورة والحكمة يتكلم لتلاميذه ويصف المال بخمس صفات:
(1) مال الظلم (أو المال الظالم)، بالمباينة مع الحق أو الغنى الحقيقي (ع9، 11). فالمال قيمته غير أكيدة ووقتية، بينما للحقائق الروحية قيمة ثابتة وأبدية. ومال الظلم هو المال في العالم على وجه الإطلاق، وتسمَّى هكذا للأُسس الظالمة التي يتداوله الناس بها، في عالم موضوع في الشرير. ولأنه يُستَخَدم، على نحوٍ مُميَّز، لأغراض لا تتفق مع مجد الله. ولأن محبة المال تعمي عيوننا حتى لا تقدر أن تميِّز الحق المُعلَن لنا في كلمة الله، بل تُقَسِّي قلوبنا، فلا نريد الحق حتى ولو ميَّزناه.
(2) القليل، بالمقابلة مع الكثير، والذي هو البركات الروحية السماوية الأبدية (ع10). فالمال لا يُشبِع القلب، ومهما كَثُر لا تُقَرُّ به العين، بل تريد المزيد: «مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ» (جامعة5: 10).
(3) ما هو للغير أو ما هو مِلْك لآخر (ع12)؛ وهذا أولاً: لأنه مِلْك الرب الذي اشترانا، ثم وضع المال كأمانة بين أيدينا لنتصرف فيه بما يُمَجِّد اسمه الكريم المعبود، وثانيًا: لأننا سنتركه هنا «لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ» (1تيموثاوس6: 7). أما “ما هو لنا” (ع12) فيُشير إلى البركات الروحية التي نلناها في المسيح.
والذي لا يفهم صفة المال كما هو في موازين الرب؛ أنه مال الظلم، والقليل، وما هو للغير، لا تبقى له إلا صفتان مُرعِبَتان للمال:
(4) سَيِّد (ع13)؛ أي إنه يتحكم في حياة الإنسان، ويكون أساسًا لكل مجرى حياته.
(5) إله (ع13)؛ أي إن القلب يرتبط به كمعبود.
وفي متى6: 24 يُحذرنا الرب قائلاً: «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ». ويا للأسف، إنه ما عاد المال خادمًا يخدمنا، بل أصبح بالنسبة للكثيرين سَيِّدًا يُخدَم، وإلهًا يُعبَد! فمحبة المال تقود إلى العبودية للمال. وإنها لمأساة حقيقية أن ما أعطاه الله في البداية للإنسان لبركته وخيره، سُرعان ما جعل البشر منه صنمًا يتعبدون في محرابه!!
ونحن لا نقدر أن نخدم هذين السَيِّدين معًا؛ الله والمال، لأن كُلاًّ من هذين السَيِّدين يطلب منا سلوكًا، ليس فقط يختلف عما يطلبه السيد الآخر، بل يتعارض معه تمامًا.
عزيزي القارئ، حذارِ من الطمع والرغبة في الامتلاك: «لاَ تَتْعَبْ لِكَيْ تَصِيرَ غَنِيًّا. كُفَّ عَنْ فِطْنَتِكَ» (أمثال23: 4). فالمال والمقتنيات لا يشكلان أهم ما في الحياة، ولا يمكن أن يكونا مصدرًا للسعادة والراحة.