العنف المُنَفِّر والمدمِّر ( قداسه البابا )
لا يستريح أحد إلي العنف، حتي من الطبيعة إن كانت عنيفة:
انها مخيفة تلك الأعاصير العنيفة التي تغرق مدنا وتشرد سكانها، وكذلك السيول العنيفة التي تجرف أمامها كل معالم الحياة. وأيضا الزلازل التي تهز الأرض وتهدم بيوتا. والبراكين التي تحرق وتدمر.. بل ما أشدها رعبا تلك الأمواج الصاخبة من بحر هائج تهدد السفن وركابها بالغرق. ومثلها الحرائق العنيفة التي تتلف وتميت.
أيضا عنيفة جدا تلك الأمراض التي يقف أمامها الطب عاجزا كل ما يستطيعه ان يسكن بعض الآلام القاسية التي تنتج عنها، دون ان يجد لها علاجا..!
كل هذه أنواع عنف من الطبيعة. وكلها غير مقبولة. وماذا تراه يصنع الإنسان تجاهها؟! ولكن هناك نوعا آخر من العنف قد يصدر من جانب البشر أنفسهم. فما هو؟
لعل أبرزه العنف في الاعتداء. وهو علي أنواع ودرجات:
عنف قد يبدأ بالإهانة والضرب، وقد يصل إلي القتل، أو ما يعرف باسم التصفية الجسدية. وربما يشمل ألوانا من التعذيب، تخرج عن نطاق المشاعر الإنسانية، ولا تتفق مع أبسط أنواع الرحمة. وقد يتعرض له الأبرياء بلا سبب.. وهذا ما يسمي الإرهاب. ومن ضحاياه الأفراد أو الجماعات.
والعنف عموما هو سلوك منفر، ولا يتفق مع الوداعة واللطف. ولا مع حسن التعامل بين الناس، ولا مع فضيلة السلام التي يدعو إليها الدين، والتي هي لازمة لسلامة المجتمع.. والعنف لا يتفق أيضا مع المحبة التي تربط بين الناس. وفي ظلها يعيش كل شخص آمنا لا يخشي شرا من أحد.
وقد ينتج العنف عن أسباب عديدة، ربما في مقدمتها قساوة الطبع، أو التهور أو اللا مبالاة بمشاعر الآخرين ومصائرهم..
فالشخص القاسي يكون عنيفا:
ليس فقط في تصرفاته وتعامله مع غيره. بل حتي ملامح وجهه يظهر فيها العنف، في نظرات عينيه، وفي لهجة صوته، وفي أسلوب تخاطبه.
والشخص العنيف قد يظهر عنفه في كلامه الجارح العنيف الذي لايحترم فيه أحدا. بل يكون مستعدا للاحتكاك بغيره لأتفه الأسباب أو لغير ما سبب! ولقد صدق الشاعر حينما قال عن مثل هذا:
عوي الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوي وصوَّت إنسان فكدت أطير
فمن أمثلته كثير من حوادث المرور، التي في بعضها يهجم سائق عربة نقل طائش علي سيارة خاصة أو علي أتوبيس، وتكون نتيجة طيشه ولامبالاته قتل بعض الركاب أو إصابة بعضهم بإصابات خطرة.. وهذا السائق نفسه قد يلقي حتفه.. وكل ذلك بسبب عنفه في قيادة عربته، وعدم مبالاته بأرواح الناس.
وقد يقول البعض انه عنف غير مقصود. ولكن نتائجه عنيفة حتي لو كانت غير مقصودة.. وهذا الأمر قد يتكرر أيضا في بعض حوادث القطارات عن إهمال.
هناك عنف آخر يحدث نتيجة للخصومة والعداوة:
ليست كل عداوة فيها عنف. فربما تقتصر علي مشاعر من الكراهية وتقف عند هذا الحد. ولكن عنف العداوة يظهر في الرغبة في الانتقام، أو في تدمير العدو بأية الطرق.. إما بتشويه سمعته، أو بتدبير بعض المؤامرات ضده. أو الشماتة به والفرح بسقوطه. وهنا تكون مشاعر الخصومة عنيفة جدا.
وقد يظهر عنف الخصومة، حينما يرفض الطرف العنيف كل محاولات الصلح التي تبذل لإرجاع العلاقة بينه وبين الطرف الاخر.
وأحيانا يكون العنف في العتاب، إذا قبل أحد الخصمين عتابا:
المفروض في العتاب انه تقريب لذات البين بين الطرفين، والوصول إلي التفاهم ثم إلي الصلح.. ولكن بعض أنواع العتاب تكون عنيفة جدا، لدرجة انها تعقد الأمور بالأكثر، وتجعل الهوة بين الطرفين أكثر اتساعا. وقد صدق الشاعر حينما قال:
ودع العتاب فرب شر كان أوله العتاب
لذلك ان أردت ان تعاتب، فكن لطيفا في عتابك.. وليكون قصدك هو الصلح، وليس تبرئة نفسك وإظهار خطأ الطرف الآخر. ولا تستخدم في عتابك عبارات قاسية أو اتهامات.
هناك عنف آخر في طريقة التربية في محيط الأسرة..
إذ انه بفهم خاطيء، قد يظن الأب انه يكون حازما في تربية أولاده، وذلك بالتضييق عليهم في كل شيء في دخولهم وخروجهم ومعاملاتهم.. وتتعب ابنته مثلا من هذه القسوة، وتهرب من البيت، لتلقي بنفسها في أي صدر حنون يعوضها بشفقته عن قسوة أبيها. وهكذا يحصد الأب نتيجة عنفه..!
أو قد يحاول أحد والديها ان يرغمها علي الزواج من قريب لها لا تحبه. فتهرب من اتمام هذا الزواج الذي يراد اتمامه عنفا، أو قد تقبل مرغمة وتحيا تعيسة تندب حظها..
وقد يحدث عنف آخر في محيط التربية بين استاذ قاس وتلاميذه، فيكرهونه ويكرهون علمه بسبب معاملته القاسية.
وقد يكون عنف الزوج في معاملة زوجته، سببا في ان تطلب الطلاق أو الخلع، هاربة من هذا الزواج الذي لم تعد تطيقه. أو قد ينتهي الأمر بجريمة للتخلص من الزوج، مثلما طلعت علينا الأخبار في بعض الجرائد.
حقا، ان العنف كثيرا ما يولد عنفا مضادا في الجانب الآخر.
علي ان العنف قد يوجد كذلك في محيط الإدارة والوظائف. مثال ذلك مدير يعاقب أحد الموظفين بطرده أو فصله فصلا تعسفيا، غير مبال بمصير هذا الموظف بعد فصله، وبخاصة ان لم يكن له مورد رزق آخر..!
إن الفصل من الوظيفة هو أعنف عقوبة بالنسبة إلي موظف.. وهناك عقوبات كثيرة أخري يمكن ان يلجأ إليها رئيس العمل، دون أن يلجأ إلي قطع رزق إنسان تحت إدارته..
والطرد من العمل يولد إحساسا عنيفا بالظلم. وربما لا يقدر هذا المطرود أو المفصول ان يقف ضد رئيسه في المحاكم!
ونفس الإحساس بالظلم يشعر به من يرفض المسئولون تعيينه أو ترقيته، علي الرغم من ان كفاءته تؤهله لذلك. ولكنه العنف!
وقد يتطور الأمر بهذا المظلوم إلي اليأس، ويجره اليأس إلي أخطاء أخري.. واليأس شعور طاغ عنيف ونتائجه عنيفة..
والعنف يظهر كذلك في بعض الثورات الدموية العنيفة..
وقد حكي لنا التاريخ أمثلة منها، وما تبعتها من محاكمات ومن مقاصل وإعدام. ولعل ما فعله روبسبير بعد الثورة الفرنسية مثل لذلك.. وكذلك ما فعلته الثورة الشيوعية حينما قامت في روسيا..
وأحيانا لا يكون عنف الثورات فيما تسفكه من دماء، إنما قد يكون أيضا في قوانين عنيفة، يقصد بها حماية الثورة وتثبيتها..
والعنف كما يوجد عند الأفراد، يوجد أيضا عند شعوب عنيفة، لا تعالج مصالحها إلا بالعنف. ويوجد أيضا عند أصحاب ما يسمونه بالطبع الناري. كما يوجد كذلك في أفلام العنف وتأثيرها..
ولا يفوتني في هذا المجال ان أذكر عنف العادات وسيطرتها، وعنف الإدمان وما يرغم عليه المدمنين من أخطاء..
كذلك عنف الفكر إذا سيطر. وأعنف الأفكار سيطرة هو فكر الإلحاد، لأن الشيطان بكل عنفه يدفع إليه.